مواضيع مماثلة
اقدم قصه حب اسطوره فرعونيه
صفحة 1 من اصل 1
اقدم قصه حب اسطوره فرعونيه
أصيل يوم من الأيام كان الشيخ (( حابي )) في بستانه الصغير ، أمام داره المتواضعة يتعهد نخيلاته ، فاسترعى انتباهه خفق أقدام ، فالتفت نحو مصدر الصوت ، فإذا فتى يسير صوبه ، وهو يجر في جهد قدميه المتعبتين ، وقد علاه الغبار ، فاختفت ملامحه ، بيد ان الناظر اليه يستطيع ان يلمح في عينيه على الفور حيرة الغريب .
وكان الفتى يحمل في يده صرة ، فخف الشيخ للقائه ، وما ان اقترب منه حتى سمعه يقول في صوت هامس : الشيخ ( حابي ) ؟
ـ هأنذا … ما مطلبك يا بني ؟
ووجد (حابي) الفتى يتخاذل أمامه ، فاسرع إليه ، واسنده إلى صدره محيطاً اياه بذراعيه ، وقال له : أمريض أنت ؟
ـ بل جائع
و سار به ( حابي ) إلى داره برفق ، وأجلسه بجوار الباب على مصطبة عارية ، و تركه برهة ، ثم عاد إليه بإبريق مملوء لبناً ، فاخذ الغريب يعب منه حتى شبع ، وبعد ان تنفس طويلاً تمتم بكلمات الشكر لمضيفه ، ثم اطرق وقتاً ، وأخيرا رفع رأسه ، وسرح بصره في الشيخ ، والكلمات حيرى على شفتيه .
و ابتسم الشيخ ابتسامة تنطوي على عطف و طيبة ، و قال : تكلم يا بني ، لا تخش بأساً ... ما حاجتك ؟ ان ( حابي ) لا يرد حاجة لغريب .
فامسك الفتى بيد الشيخ ، وضغطها في انفعال ، و قال : لقد حدثوني انك تأتي بالمعجزات ، فسعيت إليك اطلب معجزة .
فتأمل الشيخ وجه ضيفه طويلاً ، يحاول كشف ما خلف تلك الصفحة المتربة التعبة ، ثم قال : معجزة ؟! ... لست كاهناً يا بني !
ـ أنت اعظم من كاهن .
ـ افصح عن غرضك !
ـ ان قوة تعاويذك وعقاقيرك يا أبت من روح الآلهة .
ـ أنا حكيم زاهد ، قد انجح في مداواة النفوس و تطبيب الأجسام .
و حدق الفتى في الشيخ بعين جاحظة ، ثم هبط أمامه وقال وقد تشبث بثوبه : وحق ( ايزيس ) لتنتزعنّ نفسي من بين جوانحي ، ولتلقين بها بعيداً عن جسدي !
ـ هدئ من روعك .
ـ أني امقت هذه النفس الخاملة الميتة ، لتخلقني خلقاً جديداً ولتجعلني رجلاً ذا بأس واقتدار !
و جعل الشيخ يلاطف الفتى ، ثم أنهضه في وداعة ، وأجلسه بجواره ، وبعد حين قال له في هدوء ورزانة : ارو لي قصتك يا بني ... أني مصغ إليك .
و دعم الفتى وجهه براحتيه ، وراح يرسل الطرف أمامه في ذلك الفضاء العظيم حيث يبسط الغسق على الكون غلالته السوداء ، وأنصت برهة إلى ما يحيط به من صمت شامل ، ثم تكلم قائلا : أنا ( راموسي ) ، ولكن ماذا يهمك من اسمي ؟ ان ( راموسي ) نكرة لا يحس وجوده أحد .
ـ تكلم ...
ـ اني اسكن على مسيرة شهر من هنا .
ـ في بلدة ( رنسي ) ؟
ـ نعم .
ـ ذات المعابد الأربعة و المسلات الخمس ؟
فواصل ( راموسي ) حديثه ، و قد رق صوته و ضعف : و حيث تسكن الأميرة (أشمس) !
و طأطأ رأسه حيناً ، ثم رفع عينيه بغتةً و سددها في وجه (حابي) و قال في صوت غير متساوق النبرات : أريد أن أكون عظيماً ... أريد أن أكون مثرياً تزخر خزانتي بالأموال ... أريد ...
فابتسم الشيخ في هدوء و قاطعه قائلاً : انه ليس بالطلب المستحيل .
فاستنار وجه الشاب بلمعة متلألئة ، و قال : إذن ستأتي لي بمعجزة !
ـ ان ما تسميه أنت معجزة يا بني ، اسميه أمرا قد يستعصي على بعض الناس ، ولكنه في مقدور آخرين …
فهوى ( راموسي ) على يدي الشيخ ، و انهال عليهما تقبيلا . و هو يقول : شكراً .. شكراً .. سأذكر ذلك ما حييت ، وسأعوضك عنه أضعافا مضاعفة …
ثم رفع رأسه وقال : أما الآن فليس لي ما أقدمه لك سوى ... وتعثر لسانه بكلمات فسكت ، وأشار إلى الصرة التي بجواره ، وفتحها بيد راعشة أمام ( حابي ) ، فنظر فيها الشيخ فإذا خليط من قطع المعادن ، بينها شيء قليل من الفضة و الذهب ، وتابع ( راموسي) كلامه ، وقد غص من بصره : هي كل ما تبقى لي مما أملك .
ـ أبقها لك .
ـ إنها قليلة ... اعرف ذلك .
ـ لا ، فهي كثيرة إذا كانت منك ، و هذا يكفي ... و لكني لست في حاجة الى عطاء الناس .
ـ أبي !
ونهض ( حابي ) في هدوء ، وهو يقول : ألا ترى يا بني إن المساء قد اقبل يحمل في أعطافه برد الليل و أنا كما ترى شيخ !
وتركا المصطبة ، و دخلا قاعة غير رحيبة ، بسقف منخفض ، تكاد تكون عارية إلا من حصير وغطاء ، وأشعل ( حابي ) مصباحه الزيتي ، ثم جلس وأراح ظهره على الجدار وطوى يده الى صدره ، وجلس ( راموسي ) قبالة الشيخ متربعاً ، لا يفصله عنه إلا المصباح ، و انقضت برهة لم يتكلم فيها أحد منهما، ثم سمع ( حابي ) يردد في صوته الرزين : أني مصغ إليك .
فلم يحول الفتى عينيه عن المصباح ، وقال : كيف أبدأ لك قصتي ، حقاً انه لجنون ما فكرت فيه ، غير أني لست نادماً على شيء …..
لقد كنت أحيا يا أبت متبطلاً ، أخرج من داري المهدمة إلى النهر ، أتنزه على شاطئه حيث بساتين الأمراء أقضي اليوم كله أتنقل بينها أستمتع بمرأى الرياحين ، وأستنشق عرفها الذكي ، فإذا تعبت استرح بجوار الماء ، وأخرجت الناي أناجيه و يناجيني .
ـ أموسيقي أنت ؟
ـ لم اجرب أن أصفر إلا لنفسي .
وأخرج ( راموسي ) من ثنايا ثيابه ناياً من غاب ، ساذج المظهر و أراه الشيخ قائلاً : انه صديقي الذي لا يفارقني أبدا ... صديقي المطلع على سري ، العالم بما يجيش في قلبي من أماني و أطماع .
ـ أماني وأطماع قد تبدو لك بعيدة التحقيق ...
ـ إنني أضعها بين يديك ؛ فافعل بها ما تشاء …
ـ ألم تكن راضياً عن حياتك الهادئة ؟
ـ كل الرضا .
ـ إذن ( هي ) التي غيرت حالك .
ـ نعم هي ( أشمس ) أميرة الأميرات ، و أقربهن صلة بفرعون الأعلى .
ـ أتم حديثك .
ـ رأيتها يوماً تتنزه في بستانها ، فسحرني جمالها من أول نظرة ، رايتها ترتاد الخمائل في حاشيتها ، فجعلت أرقبها خلف دغل من الأشجار ، وأضاءت نفسي فجأة شمس وهاجة كشفت لي دنيا عظيمة كانت مختفيةً عني ، وإذا أنا اقطع عهداً بأنها لن تكون لسواي ، ولما عدت الى داري ، وراجعت هجسات ضميري ، هزئت بنفسي وكلي سخط وألم ، ولكن عهدي ما زال ثابتاً على الرغم من كل شيء ،لا يتقهقر ولا يتزايل ، بل يتقدم في جرأة وإقدام ، ولكن كيف أنفذ ذلك العهد ؟ هذا ما كان يحيرني ويؤلم قلبي ، منذ ذلك اليوم جعلت طريقي إلى بستانها ، لا أعرف سواه ، أقضي على مقربة منه يومي ، أراها ولا تراني فإذا صعدت في قصرها انتحيت نحو الشاطئ و تخيرت مكاناً ظليلاً ، وبثثت شكواي للناي ، فكنت أسمعه أحياناً يهمس لي : ( لماذا لا تحاول التقرب إليها ؟ لماذا لا تكشف لها عن كوامن صدرك ؟ ) .
ـ و لماذا لم تذعن لما أوحى لك به صفيك الناي ؟
ـ أتريد مني أن استمع لذلك الساذج الغرير ؟ ألم اقل لك من هي ؟ إن فيها من دم الآلهة يا أبي ، كلنا نعلم ان عظماء تقدموا إليها بقلوبهم فردتهم خائبين ، لقد أمضيت يا أبت الليالي الطوال أفكر في مصيري معها ،لا بد ان تقع معجزة تحولني من صعلوك بائس ، إلى أمير يفوق جميع الأمراء ، يرضاه فرعون و ترعاه ( إيزيس ) ، وكان أن اشتد بي الضيق يوماً ، فجريت صوب النهر و هممت أن ألقي بنفسي الى التماسيح ، وفي تلك الساعة الفاصلة سمعت هاتفاً يقول لي : ( اذهب الى ( حابي ) الحكيم ، فعنده تتم المعجزة ! ) .
فتمتم الشيخ ( حابي ) : أقال لك الهاتف ذلك ؟
ـ قسماً بإيزيس ، لقد سمعت صوته واضحاً يرن في أذني ، و كانت التماسيح قد خرجت برؤوسها تنظر الي متنمرة ، فوجدتني في لحظة أنفر متراجعاً عن النهر ، وانطلقت أعدو …
أكنت أعدو حقاً ؟ لا ادري ! كنت أحس أني محمول بقوة خارقة غير منظورة ، وفي الغد بعت ما أملك وجمعت مالي ، وحملت زادي ، وسرت وجهة دارك .
فأمسك ( حابي ) بيدي ( راموسي ) و ضغطهما وهو يقول : ستتم المعجزة يا ولدي ... فاعتمد عليّ .
ـ إذن ستجعلني أمير الأمراء ؛ وستجعل من ( أشمس ) زوجة لي ؟
ـ إن علمي لا يتطاول إلى مثل هذه الأمور .
ـ كيف ؟
ـ كل ما أقدر عليه أن أعمل على تغيير نفسيتك .
ـ أوضح يا أبي !
ـ سيتغير فيك كل شيء ... شمائلك الأصيلة ستنقلب الى ضدها : الخمول سيغدو نشاطاً متأججاً ، والقناعة ستكون طمعاً صاخباً ، والرحمة ستفسح مكانها للقسوة والعنف ، ستكون حياتك يا ( راموسي ) كالبركان الفوار ؛ لا يخبو له لهب ، ولا يسكن له زئير !
فطأطأ ( راموسي ) رأسه ، و قال : أبت !
ـ ليس ثمة طريق لما تطلب من ثروة وجاه إلا هذا الطريق .
و صمت ( راموسي ) لحظة ، ورأسه منحن على صدره ، وبغتة رفع وجهه الى ( حابي ) وقال : ولكن .. حبي ؛ حبي للأميرة .. أيعتريه تغير ؟
ـ حبك باق كبقاء الروح الخالدة ، و لكن …
ـ ماذا ؟
ـ أواثق أنك ستكون سعيداً بنفسك الجديدة بعد أن تتم المعجزة ، وأنه لن يراودك الحنين إلى نفسك الأولى ؟
ـ كلا .. كلا .. !
ودارت عجلة الحياة ، الأيام تلو الأيام ، والأشهر اثر الأشهر، وكان ملك المغرب قد دفعه الطمع إلى امتلاك ( مصر) ، فسيّر إليها الجيوش الكثيفة ، فغزت المناطق الشمالية في غير عسر، ثم اندفعت في طريقها تكتسح أمامها جند الوطن ، ولم يجد تعيين القائد الكبير ( روادا ) أميراً على الجيش الذي أرسله فرعون لإنقاذ البلاد ، إذ أصيب ( روادا ) بهزيمة نكراء ، وقتل في المعركة ، وكاد الجيش يتفكك ويندثر، لولا ان قيض الله شاباً من بين المحاربين تقدم لقيادته ، فاخذ يجمع شمله ، ويبث فيه روحاً جديداً ، فلم ينقض وقت طويل حتى انقلبت الهزيمة الى هجوم ، ثم أنتهى الهجوم الى مطاردة للعدو، فاكتساح كامل له ، واصبح هذا الشاب قائداً للجيش ، ولقب نفسه بـ " الأمير الأسود " ، اذ كان يرتدي السواد دائماً ، ولم يكتف الامير الاسود بصد هجوم الغزاة ، بل تابع زحفه في جرأة غريبة ، ففتح ( مملكة المغرب ) بأسرها ، وأخضعها لفرعون ، فصارت تابعة لمصر .
كانت ( رنسي ) المدينة ذات المعابد الأربعة والمسلات الخمس ، حاضرة ( مصر ) الثانية ، تحتفل احتفالا رائعاً بقدوم الجيش المنتصر وعلى رأسه أميره الأسود ، فقد عاد محملاً بأسلاب وغنائم ، لم يأت بها قائد منتصر من قبل ، وكان موكبه حافلاً بالأسرى العظام من الأمراء والحكام وسراة الدولة المغلوبة ، أما بقية الدهماء فقد اكتفى بقطع أيديهم ، واطلق سراحهم ، كي لا يعطلوا سير الموكب بكثرة عددهم ، ولكنه أحتفظ بتلك الأيدي ، فحملها معه ليقدمها الى فرعون رمزاً للخضوع والطاعة .
وتمت مراسيم الاستقبال في عظمة و فخامة جديرتين بالقائد العظيم والفاتح الكبير ، و لكن الأميرة ( أشمس ) أولى سيدات البيت الفرعوني تخلفت عن حضور الاحتفال وأرسلت تعتذر لفرعون، وكان فرعون يعرف ما طرأ عليها من شذوذ في طباعها واعتزالها العالم ، فقبل عذرها على مضض ، و لكن رسول الأمير الأسود جاءها يحمل من الأمير نفسه رغبته في زيارتها قبل الغروب لأمر ذي بال فلم تجد مخلصاً من استقباله وأمرت أن يعدوا القصر لهذا القدوم .
و أخذ الأتباع يعملون بجد واهتمام في تزيين القصر ، فما كادت الشمس تؤذن بالمغيب حتى بدا القصر خلال الظلام كأنه قطعة من لؤلؤ يتألق ، وانتشر الطيب الذكي في أرجائه ، فكأنه روضة فواحة من الأزهار النضرة .
وجاء الأمير في الموعد في حفل من قواده ، ودخل القصر وهو يضرب الأرض بقدميه الصلبتين ضربات شديدة ، تردد صداها في جوانب المكان ، وجعل يلتفت يمنة و يسرة بوجهه الرائع ، الذي تدل كل لمحة من لمحاته على رجولة قوية قاسية ، وكانت لعينه الواسعة إشعاعات قوية باهرة ، لا تقوى عين على تحديها .
وما ان دخل البهو الكبير ، ورأى الاميرة واقفة في صدره ، تحف بها وصيفاتها حتى توقف بغتة ، واتسعت حدقتا عينيه ، وتفتح وجهه في لحظة بنور متالق تشيع فيه الاحلام ، وامسك بيد رفيق له بجانبه وشد عليها وطالت وقفته على هذه الحال ، والناس من حوله صامتون ، واخيرا همس رفيقه في اذنه : مولاي ! … ان الاميرة تنتظرك … تقدم …
وتقدم الامير الاسود بخطوات لم تردد صداها جوانب المكان هذه المرة ، وركع امامها ، فانهضته وهي تقول : نحن الذين يجب ان نركع امام المنقذ العظيم .
ورفع وجهه اليها وقال في صوت متخافت : عفوا مولاتي .. امام هذا الجمال الالهي ، يستشعر للقائد العظيم ضآلة نفسه وتفاهة مجده .
ـ سيدي ! …
ـ ليس ثمة عظيم امامك يا مولاتي .. كلنا من اتباعك المخلصين .
وتهامس الناس فيما بينهم دهشين حيارى … لم يشاهد الامير على هذه الصورة ، حتى في حضرة فرعون الاعلى .
وبدات الجموع تتفرق ، والمكان يخلو للضيف وربة القصر، واخذ القائد يروي وقائعه ويعدد اسلابه ، ويذكر ما ناله من مال وضياع ، تعادل اموال فرعون العظيم ، وختم حديثه قائلا : ان الاميرة لتعلم ان فرعون بلا عقب ، وهو الان شيخ مثقل بالمرض ، وقد طالبه الكهنة بتبني أمير يجعله وليا للعهد ، امير اهل لهذا المنصب الخطير .
ـ وهل وقع اختيار الملك على هذا المحظوظ ؟ …
فابتسم الامير ابتسامة ذات معنى ، وقال : لقد اتم اختياره سرا ، وسيعلنه غدا في الهيكل الكبير .
وصمتت ( اشمس ) وهي تتفحص الامير طويلا .. ثم انحنت في خشوع ، وهي تقول : يسعدني ان اكون اول من يقدم طاعته لصاحب التاجين ، وارث ملك الفراعنة العظيم .
فامسك الامير بيدها ، وقال : هذا الملك العظيم ، وهذا النصر الباهر ، وهذه الاموال التي لايستطيع ان يحصيها احد ، وكل ما كسبته وما سأكسبه اضعه تحت قدميك انت يا اميرتي ويا مولاتي … اقدم لك هذا ازاء شيء واحد منك .
فاسبلت الاميرة جفنيها .
وتابع الامير حديثه في لهجة مشبوبة : كلمة منك يا ( اشمس ) تجعل هذا الوادي الفسيح بسكانه وكنوزه ، هذا الملك الضخم ، طوع يديك ، قولي كلمة الرضا ، ثم مرى فلن يعصي لك احدا امرا .
ـ الا نذهب الى المستشرف فنلقى نظرة على البستان ؟
فاجابها الامير وهو حائر : كما تريدين .
وذهبا الى المستشرف ، واطالت الاميرة النظر الى الحديقة وهي تصعّد بصرها في اشجارها وازهارها ، ثم قالت : ايسمح لي الامير ان اقص عليه قصة صغيرة ؟
فاجابها وهو يزداد عجبا : اني مصغ اليك يا اميرة .
ـ كان في الزمان الغابر فتاة من الاثرياء ، من اسرة رفيعة النسب ، تحيا ناعمة البال في قصرها ذي البستان الكبير ، حياة ترف ورغد ، ولم يكن لها مطمع تصبواليه ، الا العثور على زوج تنعم معه بحب ووفاء ، شانها في ذلك شان كل فتاة ، وحج الى قصرها اعلى الامراء شأنا ، واعظمهم وسامة وثراء ، يطلبونها للزواج ، فردتهم بلا امل .
ـ ولم ذلك ؟
ـ لانها كانت مخدوعة في نفسها مغرورة بجمالها فلم يرقها واحد من هؤلاء الامراء .
ـ ومن كانت تنتظر ان يتقدم لها بعد هؤلاء ، وهم صفوة البلد ؟ .
وتريثت الاميرة في اجابتها ، وهي تسرح طرفها في الافق ، حيث الظلام يقبل في وحشته وصمته واسراره… وقالت : هي نفسها لم تكن تدري ، ولكنها على الرغم من ذلك كانت تنتظر وتؤمل !
ـ وهل طال انتظارها ؟
ـ لا .
ـ اذن عثرت على ضالتها ؟
ـ نعم ايها الامير …
ـ أكان قائد غازيا ؟
ـ او وزيرا خطيرا ؟
ـ لا .
ـ لا ! … اذن هو ملك من نسل الالهة ! .
ـ ولا هذا ايضا …
ـ من يكون اذن ؟
ـ وارسلت الاميرة تنهدة خفيفة ، وقالت في صوت هامس : شاب رقيق الحال ، مرهف الشعور .
ـ وما مهنته ؟
ـ ليست له مهنة ، كان يقضي ايامه يجوب البساتين ، ويتنزه على ضفاف الانهار ، يستمتع بمحاسن الطبيعة.
_ انها حياة اقرب الى التبطل والصعلكة …
فتمتمت الاميرة بلهجة الحالم وهي تستقبل بعينيها كتائب الظلام المتراكم : قد يكون ذلك ولكنه الوحيد الذي استطاع ان يصهر كبريائها ، ويحطم تاج غرورها .
ـ هو !… أممكن ذلك ؟
ـ اجل .. لقد احبته الفتاة … احبت فيه ذلك الشاعر المرهف الحس ينشدها اعذب الحانه وارقها ! .
ـ أكان شاعرا ينظم لها القصائد ؛ وينشدها اياها ؟ ام كان ينظم قصائده بلا كلام ، وينشدها اياها من مزماره الرخيم ؟
فاصابت الاميرة هزة شديدة ، وقال في صوت جياش : لا ، فهي لم تره ، بل اغرمت به على البعد . ولا تدري أرآها ام لا .
ـ لا ريب في انه رآها …
ـ ليس ذلك مؤكدا ، فأنظار هذا الشاعر الجوال كانت اقصر من ان تخترق خمائل البستان او جدران القصر ، لتكشف الفتاة وتلتقي بانظارها .
ـ يا للفتى البائس ! … لو علم انها تضمر له هذا الحب لطار اليها ، وارتمى تحت قدميها يلثمها في عبادة .
ـ من يدري ايها الامير ؟… انه فتى غريب الاطوار ، يعيش وفق هواه … قد يرفض حبها لو تقدمت به اليه .
ـ محال !! …
ـ لو كان يعلم كيف احبته هذه الفتاة وكيف ترضى ان تعيش معه ، تقاسمه حياته الطليقة في دنياه الرحبة الوضاءة ، لقبل منها هذا الحب !
وتمتم الامير بكلمات متقطعة ، وقد شد بيده على حاجز المستشرف حتى كادت اصابعه تدمى .
وتابعت الاميرة حديثها : لقد برمت الفتاة بحياة الثروة والجاه التي تحياها ، واتضحت امامها بشاعتها ، واحست ثقلها المرهق يحبس انفاسها … فرغبت ان تفر من بيئتها ، تستبدل الكوخ الساذج الهادئ بالقصر المنيف الصاخب والرداء الخفيف المزين بالازهار بالثوب اللامع باللألئ … لقد برمت بكل شيء يحيط بها واشتدّت بها الرغبة ان تهرب ، فتلحق بشاعرها تقضي حياتها في حمى مزماره .
ـ ولكنها لم تفعل ! …
ـ لقد كادت … ولكن الفتى اختفى فجأة .
ـ أهرب ؟…
ـ ان الناس يرجفون بموته فقد تكون التماسيح اكلته … ومن ثم اسدلت الفتاة على حياتها سترا غليظا يحجبها عن العالم اجمع …
ـ قد تسلوه يوما ، فترضى الزواج بامير كبير .
ـ ان القصة تحدثنا ان الفتاة قضت في عزلتها عامين ، وهي لم تتغير فيها … وبقيت تترقب شاعرها الفقير كما هو ، بردائه الساذج ، وقلبه الكبير … ولن تستبدل به احدا مهما عظم قدره واتسع ماله !
ـ وهنا تنتهي القصة … اليس كذلك ؟
ـ تكاد تنتهي ، والبقية في كلمتين … اتريد ان اتمها لك ؟
فقال الامير ، وهو يضغط كلماته في حسرة مكتومة : اذا رغبت ، اتممتها انا لك !
فتمايلت الاميرة وعرضت على وجهها ابتسامة ، وقالت : كيف ؟ أو تعرفها ؟
فقال الامير في شيء من السهوم : ان براعتك في رواية القصة قد جعلتني احزر خاتمتها !
وراح الامير يحدّ بصره في نجوم الليل البعيدة كانه يريد ان يستلهمها كلمة نصح او هداية .. ولكن لم تطل وقفته على هذه الصورة ، فانحنى امام الاميرة يقول : لن انسى ما حييت حسن احتفائك بي .
وقبّل يدها قبلة طويلة عميقة ، ثم ترك المكان لا يلوي على شيء ، واقلّته على الفورعجلته الحربية ، بعد ان استأذن رفاقه في ان ينصرف وحده ، وانطلقت به العربة هائمة في اديم الصحراء تشق امامها سجف الظلام شقا .
وكان الفتى يحمل في يده صرة ، فخف الشيخ للقائه ، وما ان اقترب منه حتى سمعه يقول في صوت هامس : الشيخ ( حابي ) ؟
ـ هأنذا … ما مطلبك يا بني ؟
ووجد (حابي) الفتى يتخاذل أمامه ، فاسرع إليه ، واسنده إلى صدره محيطاً اياه بذراعيه ، وقال له : أمريض أنت ؟
ـ بل جائع
و سار به ( حابي ) إلى داره برفق ، وأجلسه بجوار الباب على مصطبة عارية ، و تركه برهة ، ثم عاد إليه بإبريق مملوء لبناً ، فاخذ الغريب يعب منه حتى شبع ، وبعد ان تنفس طويلاً تمتم بكلمات الشكر لمضيفه ، ثم اطرق وقتاً ، وأخيرا رفع رأسه ، وسرح بصره في الشيخ ، والكلمات حيرى على شفتيه .
و ابتسم الشيخ ابتسامة تنطوي على عطف و طيبة ، و قال : تكلم يا بني ، لا تخش بأساً ... ما حاجتك ؟ ان ( حابي ) لا يرد حاجة لغريب .
فامسك الفتى بيد الشيخ ، وضغطها في انفعال ، و قال : لقد حدثوني انك تأتي بالمعجزات ، فسعيت إليك اطلب معجزة .
فتأمل الشيخ وجه ضيفه طويلاً ، يحاول كشف ما خلف تلك الصفحة المتربة التعبة ، ثم قال : معجزة ؟! ... لست كاهناً يا بني !
ـ أنت اعظم من كاهن .
ـ افصح عن غرضك !
ـ ان قوة تعاويذك وعقاقيرك يا أبت من روح الآلهة .
ـ أنا حكيم زاهد ، قد انجح في مداواة النفوس و تطبيب الأجسام .
و حدق الفتى في الشيخ بعين جاحظة ، ثم هبط أمامه وقال وقد تشبث بثوبه : وحق ( ايزيس ) لتنتزعنّ نفسي من بين جوانحي ، ولتلقين بها بعيداً عن جسدي !
ـ هدئ من روعك .
ـ أني امقت هذه النفس الخاملة الميتة ، لتخلقني خلقاً جديداً ولتجعلني رجلاً ذا بأس واقتدار !
و جعل الشيخ يلاطف الفتى ، ثم أنهضه في وداعة ، وأجلسه بجواره ، وبعد حين قال له في هدوء ورزانة : ارو لي قصتك يا بني ... أني مصغ إليك .
و دعم الفتى وجهه براحتيه ، وراح يرسل الطرف أمامه في ذلك الفضاء العظيم حيث يبسط الغسق على الكون غلالته السوداء ، وأنصت برهة إلى ما يحيط به من صمت شامل ، ثم تكلم قائلا : أنا ( راموسي ) ، ولكن ماذا يهمك من اسمي ؟ ان ( راموسي ) نكرة لا يحس وجوده أحد .
ـ تكلم ...
ـ اني اسكن على مسيرة شهر من هنا .
ـ في بلدة ( رنسي ) ؟
ـ نعم .
ـ ذات المعابد الأربعة و المسلات الخمس ؟
فواصل ( راموسي ) حديثه ، و قد رق صوته و ضعف : و حيث تسكن الأميرة (أشمس) !
و طأطأ رأسه حيناً ، ثم رفع عينيه بغتةً و سددها في وجه (حابي) و قال في صوت غير متساوق النبرات : أريد أن أكون عظيماً ... أريد أن أكون مثرياً تزخر خزانتي بالأموال ... أريد ...
فابتسم الشيخ في هدوء و قاطعه قائلاً : انه ليس بالطلب المستحيل .
فاستنار وجه الشاب بلمعة متلألئة ، و قال : إذن ستأتي لي بمعجزة !
ـ ان ما تسميه أنت معجزة يا بني ، اسميه أمرا قد يستعصي على بعض الناس ، ولكنه في مقدور آخرين …
فهوى ( راموسي ) على يدي الشيخ ، و انهال عليهما تقبيلا . و هو يقول : شكراً .. شكراً .. سأذكر ذلك ما حييت ، وسأعوضك عنه أضعافا مضاعفة …
ثم رفع رأسه وقال : أما الآن فليس لي ما أقدمه لك سوى ... وتعثر لسانه بكلمات فسكت ، وأشار إلى الصرة التي بجواره ، وفتحها بيد راعشة أمام ( حابي ) ، فنظر فيها الشيخ فإذا خليط من قطع المعادن ، بينها شيء قليل من الفضة و الذهب ، وتابع ( راموسي) كلامه ، وقد غص من بصره : هي كل ما تبقى لي مما أملك .
ـ أبقها لك .
ـ إنها قليلة ... اعرف ذلك .
ـ لا ، فهي كثيرة إذا كانت منك ، و هذا يكفي ... و لكني لست في حاجة الى عطاء الناس .
ـ أبي !
ونهض ( حابي ) في هدوء ، وهو يقول : ألا ترى يا بني إن المساء قد اقبل يحمل في أعطافه برد الليل و أنا كما ترى شيخ !
وتركا المصطبة ، و دخلا قاعة غير رحيبة ، بسقف منخفض ، تكاد تكون عارية إلا من حصير وغطاء ، وأشعل ( حابي ) مصباحه الزيتي ، ثم جلس وأراح ظهره على الجدار وطوى يده الى صدره ، وجلس ( راموسي ) قبالة الشيخ متربعاً ، لا يفصله عنه إلا المصباح ، و انقضت برهة لم يتكلم فيها أحد منهما، ثم سمع ( حابي ) يردد في صوته الرزين : أني مصغ إليك .
فلم يحول الفتى عينيه عن المصباح ، وقال : كيف أبدأ لك قصتي ، حقاً انه لجنون ما فكرت فيه ، غير أني لست نادماً على شيء …..
لقد كنت أحيا يا أبت متبطلاً ، أخرج من داري المهدمة إلى النهر ، أتنزه على شاطئه حيث بساتين الأمراء أقضي اليوم كله أتنقل بينها أستمتع بمرأى الرياحين ، وأستنشق عرفها الذكي ، فإذا تعبت استرح بجوار الماء ، وأخرجت الناي أناجيه و يناجيني .
ـ أموسيقي أنت ؟
ـ لم اجرب أن أصفر إلا لنفسي .
وأخرج ( راموسي ) من ثنايا ثيابه ناياً من غاب ، ساذج المظهر و أراه الشيخ قائلاً : انه صديقي الذي لا يفارقني أبدا ... صديقي المطلع على سري ، العالم بما يجيش في قلبي من أماني و أطماع .
ـ أماني وأطماع قد تبدو لك بعيدة التحقيق ...
ـ إنني أضعها بين يديك ؛ فافعل بها ما تشاء …
ـ ألم تكن راضياً عن حياتك الهادئة ؟
ـ كل الرضا .
ـ إذن ( هي ) التي غيرت حالك .
ـ نعم هي ( أشمس ) أميرة الأميرات ، و أقربهن صلة بفرعون الأعلى .
ـ أتم حديثك .
ـ رأيتها يوماً تتنزه في بستانها ، فسحرني جمالها من أول نظرة ، رايتها ترتاد الخمائل في حاشيتها ، فجعلت أرقبها خلف دغل من الأشجار ، وأضاءت نفسي فجأة شمس وهاجة كشفت لي دنيا عظيمة كانت مختفيةً عني ، وإذا أنا اقطع عهداً بأنها لن تكون لسواي ، ولما عدت الى داري ، وراجعت هجسات ضميري ، هزئت بنفسي وكلي سخط وألم ، ولكن عهدي ما زال ثابتاً على الرغم من كل شيء ،لا يتقهقر ولا يتزايل ، بل يتقدم في جرأة وإقدام ، ولكن كيف أنفذ ذلك العهد ؟ هذا ما كان يحيرني ويؤلم قلبي ، منذ ذلك اليوم جعلت طريقي إلى بستانها ، لا أعرف سواه ، أقضي على مقربة منه يومي ، أراها ولا تراني فإذا صعدت في قصرها انتحيت نحو الشاطئ و تخيرت مكاناً ظليلاً ، وبثثت شكواي للناي ، فكنت أسمعه أحياناً يهمس لي : ( لماذا لا تحاول التقرب إليها ؟ لماذا لا تكشف لها عن كوامن صدرك ؟ ) .
ـ و لماذا لم تذعن لما أوحى لك به صفيك الناي ؟
ـ أتريد مني أن استمع لذلك الساذج الغرير ؟ ألم اقل لك من هي ؟ إن فيها من دم الآلهة يا أبي ، كلنا نعلم ان عظماء تقدموا إليها بقلوبهم فردتهم خائبين ، لقد أمضيت يا أبت الليالي الطوال أفكر في مصيري معها ،لا بد ان تقع معجزة تحولني من صعلوك بائس ، إلى أمير يفوق جميع الأمراء ، يرضاه فرعون و ترعاه ( إيزيس ) ، وكان أن اشتد بي الضيق يوماً ، فجريت صوب النهر و هممت أن ألقي بنفسي الى التماسيح ، وفي تلك الساعة الفاصلة سمعت هاتفاً يقول لي : ( اذهب الى ( حابي ) الحكيم ، فعنده تتم المعجزة ! ) .
فتمتم الشيخ ( حابي ) : أقال لك الهاتف ذلك ؟
ـ قسماً بإيزيس ، لقد سمعت صوته واضحاً يرن في أذني ، و كانت التماسيح قد خرجت برؤوسها تنظر الي متنمرة ، فوجدتني في لحظة أنفر متراجعاً عن النهر ، وانطلقت أعدو …
أكنت أعدو حقاً ؟ لا ادري ! كنت أحس أني محمول بقوة خارقة غير منظورة ، وفي الغد بعت ما أملك وجمعت مالي ، وحملت زادي ، وسرت وجهة دارك .
فأمسك ( حابي ) بيدي ( راموسي ) و ضغطهما وهو يقول : ستتم المعجزة يا ولدي ... فاعتمد عليّ .
ـ إذن ستجعلني أمير الأمراء ؛ وستجعل من ( أشمس ) زوجة لي ؟
ـ إن علمي لا يتطاول إلى مثل هذه الأمور .
ـ كيف ؟
ـ كل ما أقدر عليه أن أعمل على تغيير نفسيتك .
ـ أوضح يا أبي !
ـ سيتغير فيك كل شيء ... شمائلك الأصيلة ستنقلب الى ضدها : الخمول سيغدو نشاطاً متأججاً ، والقناعة ستكون طمعاً صاخباً ، والرحمة ستفسح مكانها للقسوة والعنف ، ستكون حياتك يا ( راموسي ) كالبركان الفوار ؛ لا يخبو له لهب ، ولا يسكن له زئير !
فطأطأ ( راموسي ) رأسه ، و قال : أبت !
ـ ليس ثمة طريق لما تطلب من ثروة وجاه إلا هذا الطريق .
و صمت ( راموسي ) لحظة ، ورأسه منحن على صدره ، وبغتة رفع وجهه الى ( حابي ) وقال : ولكن .. حبي ؛ حبي للأميرة .. أيعتريه تغير ؟
ـ حبك باق كبقاء الروح الخالدة ، و لكن …
ـ ماذا ؟
ـ أواثق أنك ستكون سعيداً بنفسك الجديدة بعد أن تتم المعجزة ، وأنه لن يراودك الحنين إلى نفسك الأولى ؟
ـ كلا .. كلا .. !
ودارت عجلة الحياة ، الأيام تلو الأيام ، والأشهر اثر الأشهر، وكان ملك المغرب قد دفعه الطمع إلى امتلاك ( مصر) ، فسيّر إليها الجيوش الكثيفة ، فغزت المناطق الشمالية في غير عسر، ثم اندفعت في طريقها تكتسح أمامها جند الوطن ، ولم يجد تعيين القائد الكبير ( روادا ) أميراً على الجيش الذي أرسله فرعون لإنقاذ البلاد ، إذ أصيب ( روادا ) بهزيمة نكراء ، وقتل في المعركة ، وكاد الجيش يتفكك ويندثر، لولا ان قيض الله شاباً من بين المحاربين تقدم لقيادته ، فاخذ يجمع شمله ، ويبث فيه روحاً جديداً ، فلم ينقض وقت طويل حتى انقلبت الهزيمة الى هجوم ، ثم أنتهى الهجوم الى مطاردة للعدو، فاكتساح كامل له ، واصبح هذا الشاب قائداً للجيش ، ولقب نفسه بـ " الأمير الأسود " ، اذ كان يرتدي السواد دائماً ، ولم يكتف الامير الاسود بصد هجوم الغزاة ، بل تابع زحفه في جرأة غريبة ، ففتح ( مملكة المغرب ) بأسرها ، وأخضعها لفرعون ، فصارت تابعة لمصر .
كانت ( رنسي ) المدينة ذات المعابد الأربعة والمسلات الخمس ، حاضرة ( مصر ) الثانية ، تحتفل احتفالا رائعاً بقدوم الجيش المنتصر وعلى رأسه أميره الأسود ، فقد عاد محملاً بأسلاب وغنائم ، لم يأت بها قائد منتصر من قبل ، وكان موكبه حافلاً بالأسرى العظام من الأمراء والحكام وسراة الدولة المغلوبة ، أما بقية الدهماء فقد اكتفى بقطع أيديهم ، واطلق سراحهم ، كي لا يعطلوا سير الموكب بكثرة عددهم ، ولكنه أحتفظ بتلك الأيدي ، فحملها معه ليقدمها الى فرعون رمزاً للخضوع والطاعة .
وتمت مراسيم الاستقبال في عظمة و فخامة جديرتين بالقائد العظيم والفاتح الكبير ، و لكن الأميرة ( أشمس ) أولى سيدات البيت الفرعوني تخلفت عن حضور الاحتفال وأرسلت تعتذر لفرعون، وكان فرعون يعرف ما طرأ عليها من شذوذ في طباعها واعتزالها العالم ، فقبل عذرها على مضض ، و لكن رسول الأمير الأسود جاءها يحمل من الأمير نفسه رغبته في زيارتها قبل الغروب لأمر ذي بال فلم تجد مخلصاً من استقباله وأمرت أن يعدوا القصر لهذا القدوم .
و أخذ الأتباع يعملون بجد واهتمام في تزيين القصر ، فما كادت الشمس تؤذن بالمغيب حتى بدا القصر خلال الظلام كأنه قطعة من لؤلؤ يتألق ، وانتشر الطيب الذكي في أرجائه ، فكأنه روضة فواحة من الأزهار النضرة .
وجاء الأمير في الموعد في حفل من قواده ، ودخل القصر وهو يضرب الأرض بقدميه الصلبتين ضربات شديدة ، تردد صداها في جوانب المكان ، وجعل يلتفت يمنة و يسرة بوجهه الرائع ، الذي تدل كل لمحة من لمحاته على رجولة قوية قاسية ، وكانت لعينه الواسعة إشعاعات قوية باهرة ، لا تقوى عين على تحديها .
وما ان دخل البهو الكبير ، ورأى الاميرة واقفة في صدره ، تحف بها وصيفاتها حتى توقف بغتة ، واتسعت حدقتا عينيه ، وتفتح وجهه في لحظة بنور متالق تشيع فيه الاحلام ، وامسك بيد رفيق له بجانبه وشد عليها وطالت وقفته على هذه الحال ، والناس من حوله صامتون ، واخيرا همس رفيقه في اذنه : مولاي ! … ان الاميرة تنتظرك … تقدم …
وتقدم الامير الاسود بخطوات لم تردد صداها جوانب المكان هذه المرة ، وركع امامها ، فانهضته وهي تقول : نحن الذين يجب ان نركع امام المنقذ العظيم .
ورفع وجهه اليها وقال في صوت متخافت : عفوا مولاتي .. امام هذا الجمال الالهي ، يستشعر للقائد العظيم ضآلة نفسه وتفاهة مجده .
ـ سيدي ! …
ـ ليس ثمة عظيم امامك يا مولاتي .. كلنا من اتباعك المخلصين .
وتهامس الناس فيما بينهم دهشين حيارى … لم يشاهد الامير على هذه الصورة ، حتى في حضرة فرعون الاعلى .
وبدات الجموع تتفرق ، والمكان يخلو للضيف وربة القصر، واخذ القائد يروي وقائعه ويعدد اسلابه ، ويذكر ما ناله من مال وضياع ، تعادل اموال فرعون العظيم ، وختم حديثه قائلا : ان الاميرة لتعلم ان فرعون بلا عقب ، وهو الان شيخ مثقل بالمرض ، وقد طالبه الكهنة بتبني أمير يجعله وليا للعهد ، امير اهل لهذا المنصب الخطير .
ـ وهل وقع اختيار الملك على هذا المحظوظ ؟ …
فابتسم الامير ابتسامة ذات معنى ، وقال : لقد اتم اختياره سرا ، وسيعلنه غدا في الهيكل الكبير .
وصمتت ( اشمس ) وهي تتفحص الامير طويلا .. ثم انحنت في خشوع ، وهي تقول : يسعدني ان اكون اول من يقدم طاعته لصاحب التاجين ، وارث ملك الفراعنة العظيم .
فامسك الامير بيدها ، وقال : هذا الملك العظيم ، وهذا النصر الباهر ، وهذه الاموال التي لايستطيع ان يحصيها احد ، وكل ما كسبته وما سأكسبه اضعه تحت قدميك انت يا اميرتي ويا مولاتي … اقدم لك هذا ازاء شيء واحد منك .
فاسبلت الاميرة جفنيها .
وتابع الامير حديثه في لهجة مشبوبة : كلمة منك يا ( اشمس ) تجعل هذا الوادي الفسيح بسكانه وكنوزه ، هذا الملك الضخم ، طوع يديك ، قولي كلمة الرضا ، ثم مرى فلن يعصي لك احدا امرا .
ـ الا نذهب الى المستشرف فنلقى نظرة على البستان ؟
فاجابها الامير وهو حائر : كما تريدين .
وذهبا الى المستشرف ، واطالت الاميرة النظر الى الحديقة وهي تصعّد بصرها في اشجارها وازهارها ، ثم قالت : ايسمح لي الامير ان اقص عليه قصة صغيرة ؟
فاجابها وهو يزداد عجبا : اني مصغ اليك يا اميرة .
ـ كان في الزمان الغابر فتاة من الاثرياء ، من اسرة رفيعة النسب ، تحيا ناعمة البال في قصرها ذي البستان الكبير ، حياة ترف ورغد ، ولم يكن لها مطمع تصبواليه ، الا العثور على زوج تنعم معه بحب ووفاء ، شانها في ذلك شان كل فتاة ، وحج الى قصرها اعلى الامراء شأنا ، واعظمهم وسامة وثراء ، يطلبونها للزواج ، فردتهم بلا امل .
ـ ولم ذلك ؟
ـ لانها كانت مخدوعة في نفسها مغرورة بجمالها فلم يرقها واحد من هؤلاء الامراء .
ـ ومن كانت تنتظر ان يتقدم لها بعد هؤلاء ، وهم صفوة البلد ؟ .
وتريثت الاميرة في اجابتها ، وهي تسرح طرفها في الافق ، حيث الظلام يقبل في وحشته وصمته واسراره… وقالت : هي نفسها لم تكن تدري ، ولكنها على الرغم من ذلك كانت تنتظر وتؤمل !
ـ وهل طال انتظارها ؟
ـ لا .
ـ اذن عثرت على ضالتها ؟
ـ نعم ايها الامير …
ـ أكان قائد غازيا ؟
ـ او وزيرا خطيرا ؟
ـ لا .
ـ لا ! … اذن هو ملك من نسل الالهة ! .
ـ ولا هذا ايضا …
ـ من يكون اذن ؟
ـ وارسلت الاميرة تنهدة خفيفة ، وقالت في صوت هامس : شاب رقيق الحال ، مرهف الشعور .
ـ وما مهنته ؟
ـ ليست له مهنة ، كان يقضي ايامه يجوب البساتين ، ويتنزه على ضفاف الانهار ، يستمتع بمحاسن الطبيعة.
_ انها حياة اقرب الى التبطل والصعلكة …
فتمتمت الاميرة بلهجة الحالم وهي تستقبل بعينيها كتائب الظلام المتراكم : قد يكون ذلك ولكنه الوحيد الذي استطاع ان يصهر كبريائها ، ويحطم تاج غرورها .
ـ هو !… أممكن ذلك ؟
ـ اجل .. لقد احبته الفتاة … احبت فيه ذلك الشاعر المرهف الحس ينشدها اعذب الحانه وارقها ! .
ـ أكان شاعرا ينظم لها القصائد ؛ وينشدها اياها ؟ ام كان ينظم قصائده بلا كلام ، وينشدها اياها من مزماره الرخيم ؟
فاصابت الاميرة هزة شديدة ، وقال في صوت جياش : لا ، فهي لم تره ، بل اغرمت به على البعد . ولا تدري أرآها ام لا .
ـ لا ريب في انه رآها …
ـ ليس ذلك مؤكدا ، فأنظار هذا الشاعر الجوال كانت اقصر من ان تخترق خمائل البستان او جدران القصر ، لتكشف الفتاة وتلتقي بانظارها .
ـ يا للفتى البائس ! … لو علم انها تضمر له هذا الحب لطار اليها ، وارتمى تحت قدميها يلثمها في عبادة .
ـ من يدري ايها الامير ؟… انه فتى غريب الاطوار ، يعيش وفق هواه … قد يرفض حبها لو تقدمت به اليه .
ـ محال !! …
ـ لو كان يعلم كيف احبته هذه الفتاة وكيف ترضى ان تعيش معه ، تقاسمه حياته الطليقة في دنياه الرحبة الوضاءة ، لقبل منها هذا الحب !
وتمتم الامير بكلمات متقطعة ، وقد شد بيده على حاجز المستشرف حتى كادت اصابعه تدمى .
وتابعت الاميرة حديثها : لقد برمت الفتاة بحياة الثروة والجاه التي تحياها ، واتضحت امامها بشاعتها ، واحست ثقلها المرهق يحبس انفاسها … فرغبت ان تفر من بيئتها ، تستبدل الكوخ الساذج الهادئ بالقصر المنيف الصاخب والرداء الخفيف المزين بالازهار بالثوب اللامع باللألئ … لقد برمت بكل شيء يحيط بها واشتدّت بها الرغبة ان تهرب ، فتلحق بشاعرها تقضي حياتها في حمى مزماره .
ـ ولكنها لم تفعل ! …
ـ لقد كادت … ولكن الفتى اختفى فجأة .
ـ أهرب ؟…
ـ ان الناس يرجفون بموته فقد تكون التماسيح اكلته … ومن ثم اسدلت الفتاة على حياتها سترا غليظا يحجبها عن العالم اجمع …
ـ قد تسلوه يوما ، فترضى الزواج بامير كبير .
ـ ان القصة تحدثنا ان الفتاة قضت في عزلتها عامين ، وهي لم تتغير فيها … وبقيت تترقب شاعرها الفقير كما هو ، بردائه الساذج ، وقلبه الكبير … ولن تستبدل به احدا مهما عظم قدره واتسع ماله !
ـ وهنا تنتهي القصة … اليس كذلك ؟
ـ تكاد تنتهي ، والبقية في كلمتين … اتريد ان اتمها لك ؟
فقال الامير ، وهو يضغط كلماته في حسرة مكتومة : اذا رغبت ، اتممتها انا لك !
فتمايلت الاميرة وعرضت على وجهها ابتسامة ، وقالت : كيف ؟ أو تعرفها ؟
فقال الامير في شيء من السهوم : ان براعتك في رواية القصة قد جعلتني احزر خاتمتها !
وراح الامير يحدّ بصره في نجوم الليل البعيدة كانه يريد ان يستلهمها كلمة نصح او هداية .. ولكن لم تطل وقفته على هذه الصورة ، فانحنى امام الاميرة يقول : لن انسى ما حييت حسن احتفائك بي .
وقبّل يدها قبلة طويلة عميقة ، ثم ترك المكان لا يلوي على شيء ، واقلّته على الفورعجلته الحربية ، بعد ان استأذن رفاقه في ان ينصرف وحده ، وانطلقت به العربة هائمة في اديم الصحراء تشق امامها سجف الظلام شقا .
مواضيع مماثلة
» اسطوره ايزيس و اوزوريس فرعونيه
» اساطير فرعونيه قديمه(خلق الكون>خلق الارض<اوزيريس<الفصل بين البشر والالهه<النداهه)
» حصريا اقدم لكم نسخة windows xp3 2010
» اساطير فرعونيه قديمه(خلق الكون>خلق الارض<اوزيريس<الفصل بين البشر والالهه<النداهه)
» حصريا اقدم لكم نسخة windows xp3 2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى